الطفل في الأسرة السعودية
د. سليمان بن عبدالله العقيل
في بداية هناك جملة من التساؤلات يجب طرحها قبل البدء في المقالة، هل الأسرة السعودية تستطيع تهيئة الجو المناسب لنمو مواهب الطفل (الفرد) وتنمية قدراته بشكل عام؟ هل الأسرة تنمي مفهوم الذات عند الطفل الصغير؟ كيف تشجع الأسرة هذا المفهوم عندما يكون فرداً في المجتمع؟.
يمكن القول ان من أهداف التنشئة الاجتماعية تدريب الفرد على مختلف المهارات، وإعداد الفرد نفسياً وجسمياً وعاطفياً واجتماعياً، وذلك عن طريق نقل المعارف والخبرات والمهارات والتصورات والمواقف التي يحتاجها الفرد ومزجها بمقتضى الحال ومتطلبات الموقف أو محددات الثقافة المجتمعية، وذلك ليندمج الفرد (الطفل) في مجتمعه عن طريق حصوله على الاعتراف المجتمعي والاجتماعي به وبإمكاناته، والتدريب وتنمية المهارات والربط بينه وبين وطنه من خلال تحديد الهوية الدينية والثقافية والاجتماعية له ولوطنه. يضاف الى ذلك الدور والمكانة التي يكتسبها ليساعداه على زيادة تكيفه مع الآخرين. إن من أهم ما تمنحه الأسرة السعودية لأعضائها، المكانة والدور (السالب والموجب)، وذلك على أساس أن الأسرة تمثل البيئة الأولية التي يتوجب عليها الوفاء بحاجات الطفل ومتطلباته من الرعاية القائمة على الحب والتعاطف والأمن النفسي والاجتماعي، وغرس الموروثات والقيم الحضارية والروحية في وجدانه بالصورة التي تؤهله ليشب ناضجا وراشدا وقادرا على تحمل مسؤولياته وتباعاته وواجباته في المستقبل خالية من الشوائب أو التبعات لثقافات مغايرة، رغم الإيمان بالاحتكاك الثقافي والاقتباس منها ما يفيد وفي المقابل التصدير الثقافي (الدعوة)، والأسرة في المجتمع السعودي شأنها شأن البيئة الأسرية في الوطن العربي عموما حيث تندرج تحت أنماط حضارية ثلاثة تشكل محددات البنية الاجتماعية بمكونها الاجتماعي والقيمي والثقافي وهي أنماط الأسرة الحضرية، والريفية، والبدوية وتعكس هذه المستويات الثلاثة للبيئات الأسرية تقارباً فيما بينها من حيث درجة الوعي الاجتماعي وأسلوب ونوعية الحياة ومستوى المعيشة، ليس على المستوى القومي وحده وإنما على مستوى كل قطر عربي كذلك. وعلى الرغم من تعايش هذه الأنماط الحضارية الثلاثة جنبا الى جنب في الوطن العربي وحدوث التداخل والتفاعل بينها إلا أن الاختلاف بينها يعكس في العديد من وجوهه درجة التفاوت في تمثل دور الأسرة تجاه حاجات الطفل (الفرد) النامية وتنمية شخصيته كذلك تبدي بعض صور التفاوت التي ترد الى العوامل والظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي كثيراً ما تحول دون الوفاء بحاجات الطفولة (الفردية) وتحقيق الفرص المواتية في مجالات الخدمات الصحية والتربوية. والأسرة السعودية في تنميتها لذات الطفل (الفرد) وتأثيرها على توجهاته ومواقفه والتدخل أحيانا في مجريات حياته، حتى أنها في بعض الأحيان تتخذ قرارات بالنيابة عنه، أو أنها تقفز فوق طموحاته وآماله لتحقيقها رغماً عنه، كل ذلك من خلال الشرعية الاجتماعية، لأن ثقافة المجتمع خوّلت الأسرة بالإقدام على ذلك، وهي بذلك إنما تشكل بنية اجتماعية متكاملة ومتجانسة الى حد كبير تميزها بسمات وخصائص محددة منها أنها تستمد العقيدة الإسلامية والثقافة العربية وواقع التخلف وملامح النضال الاجتماعي والشعبي ومقتضيات الحال والرؤية المستقبلية التي تتبناها الأسرة. غير أن الواقع الاجتماعي والمستقبلي الذي يرى البعض من المتخصصين في علم الاجتماع يقول ان التربية الأسرية والمجتمعية وبعض التوجهات والتصورات المفسرة لواقع الحال والمنطلقة من التراكمات التاريخية والتراثية التي يمارسها البعض لتوجيه حركة المجتمع قد لا تناسب واقع الحال خصوصاً في ظل الانفتاح والعولمة. لذلك فإن الاجابة على الأسئلة السابقة الذكر تكمن في تطور فهم الأسرة للمرحلة ووجاهة التوجيه والرؤية الواضحة للمطلوب اجتماعيا ودينياً ووطنيا. وهنا يمكن القول ان الأسرة السعودية والعربية قد حققت المطلوب منها وهو الدفع للمجتمع بمواطن صالح يفيد نفسه ودينه ومجتمعه لأن بناء شخصية الطفل (الفرد) والتأكيد على مفهوم الذات لديه إنما يمثل عملية استيعاب الثقافة الاجتماعية والموجهات ويختزن في ضميره ووجدانه حياة هذه الأمة بماضيها ومستقبلها، بل ويمثل وعاء لاستمرار أصالة التراث الحضاري لأمته.
قسم علم الاجتماع جامعة الملك سعود
أعلـىالصفحة
رجوع
مقولة: التنشئة الاجتماعية ذات بعدين «المجتمع والطفل»
د. سليمان بن عبد اللّه العقيل
يمكن توضيح مدى فاعلية هذه المقولة بالنظر إلى أهمية التنشئة الأولى وما يرتبط بها من مدخلات تربوية وخبرات وتجارب حياة الطفل «الفرد» كبعد أول في عملية التنشئة الاجتماعية، ولكن طبيعة العلاقات الاجتماعية مع الأم والآخرين تعتبر أكثر أهمية لأنها تؤثر على الصورة التي يأخذها الطفل عن نفسه، ويدل على ذلك أن الأم تنهض بكل احتياجات الطفل وتسهر على رعايته، لذلك فإن خبرات التنشئة الاجتماعية للأطفال «الأفراد» تتضمن أيضا تفاعلا مع الأعضاء الآخرين في الأسرة النووية «الصغيرة»، وكذلك في الأسرة الممتدة «الكبيرة»، وغني عن البيان أن عملية التنشئة الاجتماعية تأخذ وقتاً طويلا حتى تتضح معالم تلك الخبرات والتجارب والمدخلات التربوية والتعليمية لتشكل شخصية «الفرد» الطفل الاجتماعية، لأنه عند ولادته لا اجتماعيا، لكنه عن طريق التفاعل مع الآخرين والبيئة من حوله تنمو اللغة وتتكون المعاني وتبدأ الذات الاجتماعية في الظهور. وفي هذه الحالة يمكن للأشخاص القائمين على التربية والتوجيه سواء كان ذلك في الأسرة أو المجتمع المحلي أو المجتمع العام أو المجتمعات الخارجية أو الوسائط التربوية أو التخريبية أن تقوم بدور «موصل» النزعة الاجتماعية أو العدوانية أو غيرها. إذاً فالتنشئة الاجتماعية والسلوك «السلبي أو الإيجابي» الذي يعد تعبيرا عن عملياتها يعتمد على الدوافع والحاجات والعمليات اللاشعورية والخصائص العنصرية والبيولوجية ويعتمد أكثر على العمليات التفاعلية بينها وبين المحيط «الاجتماعي والطبيعي» وعلى المعاني المستمدة للذات من المحيط الاجتماعي والتفسير المفهوم للتراث الديني والشعبي والتاريخي. ومما يزيد من فاعلية هذه المقولة، الشروط التي وضعها بعض المهتمين بالتنشئة الاجتماعية والتربية الأسرية والمجتمعية، والتي يرى أن توفرها أساس للتوصل إلى تنشئة اجتماعية ملائمة وصحة نفسية للمجتمع وللأجيال القادمة من أبناء المجتمع كما أن فيها تأثيراً على قوة العلاقة بين كلٍ من البعدين الطفل والمجتمع على حد سواء وهذه الشروط كالتالي:
1 الشرط الأول: الصفحة البيضاء، لأن الطفل حينما يولد فإنه يدخل لمجتمع موجود بالفعل. هذا المجتمع «أي مجتمع» له تصوره الديني المحدد، وقواعده ومعاييره وقيمه واتجاهاته، وبه بناءات اجتماعية عديدة منتظمة، ومع ذلك تتعرض كل تلك المجهودات للتغير النسبي باستمرار. غير أن الطفل الوليد لن يكون مهيأً اجتماعياً أو أنه ليس لديه علم بالعمليات السابقة الذكر أو البناءات أو التغيرات. وتكون وظيفة أنماط التفكير والشعور والعمل في مثل هذا المجتمع «التنشئة الاجتماعية» تحديد الوسائل والطرق التي يجب أن يمر بها «الوليد الجديد».
2 الشرط الثاني: هو الميراث البيولوجي، الذي يسمح لعمليات التعلم بالحدوث. وذلك أن العقل والجهاز الهضمي، والقلب النابض كلها متطلبات أساسية وضرورية من أجل التنشئة الاجتماعية ويجب أن يكون واضحا أنه على الرغم من أهمية الميراث البيولوجي في عمليات التعلم وضرورته، إلا أنه لا يشكل جانباً جوهرياً في عملية التنشئة الاجتماعية المتكاملة ذلك لأنه من المعروف أن هناك احتياجات معينة مثل الشراب والنوم تكون أساسية من أجل البقاء، ويمكن إشباعها بطرق مختلفة، كما أن المزاح والذكاء بيولوجي في أساسه، إلا أن نموهما وتطورهما واتجاههما يتأثران إلى حد كبير بالمجتمع الذي يولد فيه الطفل.
3 أما الشرط الثالث: الطبيعة الإنسانية، وهو شرط المتكاملة الأبعاد للتنشئة الاجتماعية وهي هنا تشير إلى عوامل معينة تمايز البشر. أي أنها تميز البشر في حالة مقارنتهم بالحيوانات الأخرى. ويرى مدخل التفاعل الرمزي أن الطبيعة الإنسانية تتضمن المقدرة على القيام بدور الآخرين، وكذلك المقدرة على الشعور مثلهم، أو عموماً المقدرة على التعامل بالرموز، هذا يعني إعطاء المعنى للأفكار المجردة، ومعرفة الكلمات والأصوات والإيماءات، فالغمز بالعين مثلا والمصافحة باليد، والإيماء بالرأس كل هذه أشياء يكون لها معنى تبعا لمقدرة الفرد على فهم ما ترمز إليه وبصفة عامة نستطيع أن نقول إن هذه الأشياء طبيعة، وينفرد بها البشر دون غيرهم من المخلوقات.
ومما سبق نستطيع القول أن عملية التنشئة الاجتماعية التي تسند إلى الطفل «الفرد» بمكوناته البيولوجية بطبيعته الإنسانية كبعد أساس لعملية التنشئة، ومن ثم تقليد الوالدين ودور تأثير رفاق السن من أبناء الجيرة وزملاء المدرسة إلى الخضوع المدرسي وانتهاء بتأثير وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المختلفة كبعد ثان هام وضروري لتفعيل العلاقة بين البعدين السالفي الذكر للوصول إلى تنشئة اجتماعية ملائمة وبطريقة جيدة وبصورة فعالة لما فيه صلاح الفرد والمجتمع .
التنشئة الاجتماعية والمجتمعية في الأسرة والمدرسة
د. سليمان بن عبدالله العقيل
إن الدور الذي يناط بالأسرة والمدرسة في تنمية شخصية الطفل«المواطن الصالح القادم»، يكتسب أهمية عظيمة لأنه دور يعتمد على نوعين مختلفين من التنشئة والتربية في التوجيه وفي التعامل وفي البناء الفكري والعاطفي والاجتماعي. فالأول يعتمد على التنشئة الاجتماعية الأسرية ذات الأبعاد القرابية والاحتياجات الأولية والخاصة بالفرد في محيط أسرته ومجتمعه المحلي بالإضافة إلى العلاقة مع المجتمع الخارجي، بينما يعتمد الثاني في البناء والتنشئة المجتمعية على التعليم الرسمي ذي الأبعاد الدينية والتاريخية والوطنية،
بالإضافة إلى شيء من التنشئة في المحيط الأسري والمعتمد على التعاليم الدينية والتراثية في هذا الجانب. لذلك فإن المدرسة تعلق آمالاً كبيرة على البيت أو الأسرة في إكساب الطفل المعايير السلوكية والتي سوف تمكنه من التعامل مع العالم الخارجي فيما بعد سن الخامسة بما في ذلك المدرسة وذلك لأن بعض العلماء يرى أن الخمسة السنوات الأولى هي حجر الأساس لبناء شخصية الفرد والتي يستمر تأثير خبراتها طوال الحياة، فالطفل يتأثر في سنينه الأولى بوالديه وإخوته وكل من هو في نطاق الأسرة من الأقارب باعتبار أن هؤلاء الأشخاص هم أول من يتلقى عنهم المعايير السلوكية المختلفة، فالطفل يدرك أثناء تفاعله مع والديه معنى دوره في المجتمع والتزامات هذا الدور والتوقعات المطلوبة منه في المواقف المختلفة، ولذلك كان التوحّد بين الأهداف التربوية المدرسية والقيم والمبادئ السلوكية التي تزرعها الأسرة في صغارها أمراً في غاية الأهمية ضماناً لإدماج الفرد بالإطار الثقافي العام المجتمعي للمجتمع الذي يعيش فيه الفرد كمواطن وعضو من أعضاء المجتمع الفاعلين.
إن الطفل بعد التحاقه بالمدرسة يبدأ البناء الاجتماعي للفصل المدرسي في الوضوح والتبلور، وتبدأ مرحلة التقبّل الاجتماعي وتكوين الصداقات، ويعرف الطفل معنى التفوق، ومعنى التعاون والمشاركة ومعنى التنافس ومعنى النجاح، ومعنى الجهد والعائد من النجاح، ومعنى التكاسل وارتباطه بالفشل والرسوب، يبدأ الطفل في الخضوع تماماً للنظام المدرسي كما تنتظم علاقاته بالمعلم بحيث يكوِّن معه ومع زملائه نسقاً اجتماعياً كما أن الطفل يكوِّن مع المعلم شخصياً نسقاً فرعياً، يؤثر على سلوكه، وعلى تحصيله الدراسي، ويتعلم الطفل أثناء ممارسة النشاط المدرسي كيف يحقق الأهداف المرسومة من قبل الأسرة والمدرسة والمجتمع ويواجه أساليب جديدة للثواب والعقاب، تختلف عن الأساليب التي تعودها في الأسرة تدفعه دائماً إلى التكيف مع متطلبات الموقف والمكان والزمان الذي يوجد فيه. وبذلك تحقيق توقعات المعلم والأسرة وبالتالي تتحقق آمال وطموحات الوطن من خلال ثقافته. لذا يمكن القول إن هناك تناغماً، أو يجب أن يكون، في تنمية التنشئة الاجتماعية والمجتمعية، لأن المجتمع السعودي بما يحوي من ثقافات فرعية في داخله، لا بد أن يتمحور حول ثقافة اجتماعية واحدة قوية عمادها الثقافة والتراث الاجتماعي والتعامل مع البيئة المحيطة بما يحقق للجميع المصلحة العامة المرجوة من قيادات المجتمع.